كنت في الأربعين من عمري حين ظهرت الأعراض الأولى وطُلب مني إجراء التصوير الشعاعي الذي كشف وجود كتلة. ولكن الأطبّاء أكّدوا أنها حميدة. هكذا بدأت رحلتي مع السرطان.
بعد عامين في أبريل 2014، رأيت كتلة واضحة ناتئة من ثديي لم أرها من قبل وبدت وكأنها ظهرت بين ليلة وضحاها. قصدت الطبيب النسائي في اليوم التالي فأرسلني لإجراء التصوير الشعاعي للثدي وتخطيط الصدى. أكّدت اختصاصية التصوير بالأشعة أنّ النتيجة لا تبدو جيدة ولكن طبيبي لم يوافقها الرأي فأجرى شفطاً بالإبرة واتصل بي بعد ثلاثة أيام ليخبرني أنه ليس ورماً سرطانياً. كنا نجهل أنه أجرى الشفط على المنطقة الخاطئة.
أردت حقاً أن أصدق أنني بخير وأنّ الطبيب محق، فحاولت أن أطرد الفكرة من ذهني. بعد خمسة أشهر، وإذ كنت أشعر أنّ الكتلة ما زالت تنمو، عدت عند طبيبي لإجراء خزعة أخرى فتمّ التأكيد على شكوكي هذه المرة.
عندما سمعت أنني مصابة بالسرطان للمرة الأولى، شعرت بنوع من الارتياح. أجل، لم أعد أشكّك في الأمر ولم أعد مضطرة إلى الاستغراق في التفكير والتساؤل. ولكن ذاك الارتياح دام دقيقة واحدة فقط وفجأة، باغتتني الصدمة كعاصفة من الشكوك. ما التالي؟ ماذا عن أولادي؟ ماذا عن عائلتي؟ ماذا سيحدث؟ بدأت الأسئلة تتدافع في ذهني واستبدّ القلق بي. كانت اللحظة التي فقدت فيها السيطرة. تغيّرت حياتي، وأنا نفسي تغيّرت. بدأ طبيبي يعدّد الإجراءات التي علي الخضوع إليها ولكنني كنت شاردة، لم يعد ذهني حاضراً.
رغم أنّ الأمر كله كان جنونياً، انتقلت تالياً إلى نمط "الانطلاق" وأردت إخراج المرض مني بالطريقة الأسرع والأكثر فعالية. وهكذا بعد يومين، كنت على متن طائرة متجهة إلى إنكلترا مع أختي العزيزة. ثم لحق بنا أخي وأمي يليهما بعض الأصدقاء. كانت تتجاذبني مشاعر متناقضة فكان الشعور بالمحبة ودعم الجميع من حولي يترافق مع الشعور بالذنب لأنني أقلقت أعزّ الأشخاص إلى قلبي.
قابلت جرّاحي وبعد أسبوع من تشخيص إصابتي دخلت المستشفى للخضوع إلى استئصال الثدي. إنه لشعور غريب أن يغادر المرء عالم الوعي ويعود فاقداً جزءاً مهماً من جسمه، من نفسه. كيف سيكون شعوري في هذا الجسم الذي تغيّر إلى الأبد؟ هل سيخفّ شعوري بالإجهاد مع تضاؤل احتمال إصابتي بسرطان الثدي في المستقبل؟ هل أنا أنانية لأنّ مظهري يهمّني؟ كان من الصعب علي أن أتقبّل فقدان قطعة مني كانت جزئياً تحدّد أنوثتي، روحياً وجسدياً. أظن أننا نودّ الاعتقاد بأنّ الجراحة التجميلية ستصلح كل شيء. لقد ساعدتني ولكن ليس بالقدر الذي يتصوّره الناس. فقدت الصلة مع جسمي.
استغرقني الأمر 10 أيام للتعافي ولكنني شعرت بأنها 10 أعوام! ما ساعدني على تخطّيها هو قضاء الوقت مع أولادي وعائلتي؛ جولة حول المستشفى أو فنجان قهوة مع أمي فيما كانت منازح التصريف مخفيّة تحت شال كبير. من الغريب أن يستهلك أمرٌ ما حياتك كلياً ويقلبها رأساً على عقب من جهة الألم والصحة العقلية، ولكن حين ينظر الناس إليك لا يمكنهم رؤية أيّ من ذلك.
تالياً، جاء دور العلاج الكيميائي! بدأ الأمر بجلسة تمهيدية حيث أمضيت ساعة مع الممرضة التي شرحت لي العلاج الكيميائي والآثار الجانبية للجرعات الهائلة من الأدوية التي سأتلقّاها. كانت جلسة طويلة. تحدثت عن تساقط الشعر والغثيان ووهن الجسم وأمور كثيرة أخرى ولكن ما أثّر فيّ الأكثر هو حين سألتني ما إذا لدي أولاد! أجبت: "نعم، لدي ثلاثة أولاد." ثم سألتني: "هل تنوين إنجاب المزيد من الأولاد؟" فأجبت: "أجل، أودّ ذلك." فقالت: "للأسف عزيزتي، أخشى أنّ هذا مستحيل. سيتسبّب الدواء بانقطاع الطمث المبكر!"
عندما وصلت إلى جلستي الأولى من العلاج الكيميائي لم أكن خائفة جداً إذ كنت أعرف كل شيء عن الآثار الجانبية والعواقب. ولكن تواجدي حول أشخاص مصابين بالسرطان ورؤية كيف فقدوا شعرهم وطاقتهم وملامحهم، وحتى حياتهم، جعلني أفكّر كثيراً في ما ينتظرني.
أمي وأختي (التي وصلت من دبي ذاك اليوم) وصديقتي التي أتت من وندسور كنّ جميعاً هناك بعيون شاخصة يخفين قلقهن عبر المزاح. كانت كل واحدة منا تحاول أن تحمي الأخريات من انفعالاتها.
رأيت الممرضة تتجه نحوي حاملة أول كيس من الأدوية؛ كان هناك العديد منها. حقنت الإبرة في الوريد وانتظرت حدوث أمر ما. كنت أنتظر الألم، الغثيان، الشعور بالتعب... كنت أنتظر شيئاً ما ولكنه لم يحدث. ثم تغيّر رأيي! أجل! خلت أنّ جسمي قوي ويتحمّل كل أنواع الألم، والدليل على ذلك أنني بعد العديد من العمليات والجراحات التي خضعت إليها، كنت أغادر المستشفى بعد أقل من 48 ساعة وأحياناً بعد 24 ساعة فقط.
رحت أقول لأمي: "هذا أفضل مما خلت!" ولكن ذاك الشعور لم يستمرّ طويلاً. فجأةً أصابني الأمر، لا أدري ماذا جرى، انقطعت أنفاسي ولم أعد أرى أي أحد. كانت لدي مخططات تلك الليلة ولكن الطبيب قرّر أنه يجدر بي المبيت في المستشفى.
لم أستعد طاقتي إلاّ بعد أسبوع وأول أمر فعلته هو زيارة مصفّف الشعر لأقصّ شعري قصيراً جداً قبل أن يبدأ بالتساقط، ولكنه رفض. كان شعري طويلاً ولم يكن يريد أن يقصّه. كان إيطالياً وكان يأبى أن يصدّق أنني سأفقده ولم يشأ أن يكون مَن يقصّه.
كنت أصحو كل يوم مترقّبةً تساقط شعري. اشتريت شعراً اصطناعياً وعمامات جميلة وكنت أنتظر اعتماد أسلوبي الجديد بفارغ الصبر. ثم قبل بضعة أيام من جلسة علاجي الكيميائي الثاني، شعرت بألم شديد في فروة رأسي قبل الخلود إلى النوم. خالجني شعور غريب جداً إلى أن رأيت شعري يتساقط. صباح اليوم التالي، أتت زوجة أخي الجميلة ووضعتني في سيارتها واصطحبتني إلى صالون التجميل الخاص بها لقص شعري قصيراً جداً. ظللت أرى شعري يتساقط فقرّرت أن أحلق رأسي كله وأوفّر على نفسي الم مشاهدة ذلك.
كنت أمكث في المنزل عشرة أيام بعد جلسة العلاج الكيميائي ثم أحتفل طيلة أسبوع قبل موعد الجلسة التالية. فكنت أذهب إلى كل مكان وأفعل كل ما بوسعي لرفع معنوياتي استعداداً للجلسة التالية والأيام العشرة بعدها. صحيح أنّ العلاج الكيمياء أرهقني ولكنه لم يؤثّر في شعلة الأمل بداخلي، ما ساعدني على تجاوز خطّ النهاية.
غالباً ما يسمع مرضى السرطان كلمات مثل "أنت شجاعة جداً! لما استطعت مواجهة ذلك أبداً." وكأنّ لدينا خياراً في المسألة أو تم اختيارنا بناءً على شجاعتنا. كان السرطان عموماً يخيفني ولكنه ليس مخيفاً مطلقاً. كنت مصابة بالسرطان وببطء، مع العلاج، غادر السرطان جسمي. لم أكن أحارب شيئاً، لم أكن أريد محاربة شيء إذ لم أكن أتحكّم بزمام الأمور.
إنّ تجربتي مع السرطان غيّرت حياتي فعلاً. لا أدري كيف أشرح هذا ولكنني أحياناً أفتقد الأيام التي خضت فيها تلك الرحلة. طبعاً لا أفتقد إلى الألم؛ فقد زال احتباس الماء ونما شعري من جديد ولكنني أفتقد أمراً ما. حقاً لا يمكنني تحديد ما هو بالضبط. لعله الدعم الإيجابي الذي كنت أحصل عليه من الناس حولي. لعلها الدروس التي تعلّمتها والقوة التي اكتسبتها. أو لعل الشعور بالقوة في صميمي وكبرياء الاستمرار بشجاعة جعلاني أدرك أنني أقوى مما كنت أظن. ولكن في الحقيقة، غالباً ما ننهض ونُظهر قوة خفية في الظروف التي لا يكون لدينا خيار فيها سوى النضال ومواصلة التقدّم. فنضع قدماً تلو الأخرى لأنّ المضي قُدماً هو الأمر الوحيد الذي نجيد فعله. عندئذٍ اكتشفت أنه يمكنني في النهاية مواجهة ما لا يمكن تصوّره. علي الإقرار بأنني استمدّيت الكثير من القوة من والدَي وأقاربي، وزوجي، وابني الهادئ، وابنتَي الجميلتين. كما وطّدت التجربة علاقتنا جميعاً معاً.
إنّ مع العسر يسراً فعلاً، ومع أنّ السرطان سلبني أموراً مثل صحتي كان عاجزاً أمام أهم الأمور في حياتي؛ عائلتي وقوّتي وروحي الجامحة واندفاعي. لا بل جعل جذورها تمتد وتترسّخ أكثر.
إن استطعت مواجهة السرطان، أعرف أنه يمكنني مواجهة أي عقبات تعترض دربي في عملي ومهنتي وشغفي. طالما هزمت السرطان، يمكنني فعل أي شيء. لا أدري من أين أتى ذلك؛ لم يكن هذا بطبعي قط ولكنّ الشعلة أضيئت فيّ آنذاك. أشعر بالشغف حيال أمور كثيرة ولكنني لم أتجرّأ قط على تطوير قدراتي أو مهاراتي من قبل إذ كان أمر ما دوماً يعترض الدرب. الآن أشعر أنّ لا شيء يمكنه اعتراض سبيلي.
إذا أردت أن أسدي نصيحة إلى أي شخص يقرأ هذا الآن فهي أن تصغي إلى جسمك ببساطة. ما من عمر محدّد للإصابة بالسرطان وكلما أبكرت في الحصول على الفحص المسحي كانت النتيجة أفضل. في الشرق الأوسط، نعاني رهاب السرطان بدون أدنى شك. حتى إننا نخشى لفظ اسمه ونشير إليه بـ "ذاك المرض". تسرّني رؤية المزيد من الحملات بشأنه لزيادة الوعي حول هذا المرض ومنافع الكشف المبكر. لا تخف من السرطان؛ صحيح أنك ستخسر شيئاً خلال التجربة ولكنك تكسب الكثير في المقابل. إنها طريق باتجاهين.